
الحكومة الرشيدة في إمارة الشارقة
في عالم يتسارع فيه التغيير وتتعاظم فيه التحديات، تقدم إمارة الشارقة نموذجاً فريداً للحكومة الرشيدة يقوم على التكامل بين الأدوار التشريعية والتنفيذية والرقابية والمجتمعية، مع رؤية استراتيجية تستلهم توجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في الجمع بين التنمية المستدامة في كافة جوانبها.
نموذج الإدارة الحكيمة
ولا يخفى ما تجسده إمارة الشارقة من رؤية حضارية متفردة في مفهوم الحوكمة الرشيدة، إذ لا تكتفي برفع الشعارات، بل تبني شراكة حقيقية بين مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والمجتمعية لصياغة إدارة فعّالة وعادلة ترتكز على الرقابة والشفافية. وفي قلب هذه المنظومة يأتي المجلس التنفيذي لإمارة الشارقة، والمجلس الاستشاري لإمارة الشارقة، والمجالس البلدية التسعة في الإمارة، وكذلك مجالس الضواحي المنتشرة في مدن ومناطق الإمارة، كركائز لصناعة التنمية المستدامة وفق أهداف بيئية وثقافية تتناغم مع متطلبات المستقبل. أرست الشارقة نهجاً يوازن بين الاستجابة المجتمعية والرقابة الاستراتيجية، ليضمن نمواً عمرانياً مستداماً وشاملاً، مدفوعاً بمشاركة مجتمعية واعية، وتطبيق ما يُعرف بمحركي النمو المزدوج. وبينما تمثل المجالس صوت المجتمع على مستوى المدن والمناطق، لاسيما مع ما يضطلع به المجلس الاستشاري بدور أوسع نطاقاً في التشريع وإبداء الرأي والمشورة كونه برلمان الإمارة المنتخب، بما يعزز التكامل المؤسسي ويجعلها نموذجاً إقليمياً في التنمية الحضرية المستدامة.
*المجلس التنفيذي لإمارة الشارقة: قيادة العمل التنفيذي: تأسس المجلس التنفيذي لإمارة الشارقة عام 1999م ليشرف على تنفيذ السياسات العامة ومتابعة الأداء الحكومي. ويضطلع المجلس التنفيذي بمهام صياغة الخطط التنموية، واعتماد المشروعات الكبرى، وتنسيق جهود الدوائر والهيئات الحكومية، بما يضمن تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي، والحفاظ على البيئة، وتطوير البنية التحتية والخدمات.
*المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة: صوت التشريع والرقابة المجتمعية. في العام 1999، أُنشئ المجلس ليشكل منبراً برلمانياً محلياً يجمع بين التشريع والرقابة والمشورة. ويقوم المجلس بدور محوري في مراجعة السياسات العامة، ودراسة مشروعات القوانين، وطرح الأسئلة البرلمانية، وصياغة التوصيات التي تدعم مسيرة التنمية. يقول صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي خلال افتتاح المجلس الاستشاري في 7 ديسمبر 1999: «يأتي مجلسكم الموقر استكمالاً لمهمة المجلس التنفيذي الذي أنشأناه في الأسابيع القليلة الماضية ليكون المجلسان عوناً لنا في تصريف أعباء الحكم في الإمارة من ناحية ودعم تعزيز المؤسسات الاتحادية من ناحية أخرى إدراكاً منا لأهمية مشاركة المواطنين واضطلاعهم بدورهم الفعال في خدمة وطنهم وأبناء بلدهم عن طريق التشاور والتناصح تحقيقاً للغايات التي استهدفها إنشاء هذا المجلس». وقد رسّخ المجلس الاستشاري، من خلال جلساته ونقاشاته، بيئة تشريعية متقدمة أُقرت خلالها مشروعات قوانين شملت مختلف القطاعات الحيوية، بآلية متكاملة تعزز مبادئ الحوكمة الرشيدة وترتقي بمستوى التشريع في إمارة الشارقة. وعلى الصعيد الرقابي، قدّم المجلس منذ الفصل التشريعي التاسع وحتى الفصل الحادي عشر ما مجموعه 494 توصية متكاملة، غطّت محاور جوهرية تمثل ركائز التنمية المستدامة، جاءت على النحو التالي: *الحوكمة المؤسسية: 235 توصية، ركزت على تطوير الأداء المؤسسي، وضمان الشفافية، وتعزيز كفاءة إدارة الموارد.
هذا التنوع في محاور التوصيات يعكس شمولية رؤية المجلس وحرصه على الموازنة بين التطوير التشريعي والرقابي، بما يخدم الإنسان ويعزز ازدهار الإمارة. ونمضي في ذلك، فعلى سبيل المثال، خلال جلسته الثانية عشرة عام 2022، استعرض المجلس خطط دائرة التخطيط والمساحة التي شملت شبكات النقل وتخطيط الأراضي ودمج البيانات، وأوصى بتوفير 47,665 قطعة سكنية بحلول عام 2042، استناداً إلى توقعات النمو السكاني والتحليل المكاني. هذه الأرقام تعكس الدور الاستشرافي للمجلس في مواءمة التخطيط مع احتياجات المجتمع.
*المجالس البلدية: الإدارة المحلية بروح المجتمع: إلى جانب المجلسين التنفيذي والاستشاري، تشكل المجالس البلدية في إمارة الشارقة الركيزة الثالثة لمنظومة الحكومة الرشيدة والتي أنشئت في فبراير عام 2005م، إذ تمثل صلة الوصل المباشرة بين السكان وصناع القرار. وتعمل هذه المجالس على تحويل آراء المجتمع إلى خطط عملية ومشاريع ميدانية. تلعب المجالس البلدية التسعة في الإمارة دوراً محورياً في ترسيخ ممارسات الحوكمة المحلية، من خلال تمثيل صوت المجتمع وإشراكه في صياغة القرارات والسياسات التي تمس الحياة اليومية للأفراد والأسر، والعمل على تطوير البنية التحتية والخدمات العامة بأسلوب يعزز الاستدامة ويراعي الهوية البيئية والثقافية للإمارة. تنهض المجالس البلدية في إمارة الشارقة بدور جوهري في صياغة التنمية المحلية، مستندة إلى رؤية تشاركية تجعل المجتمع محور التخطيط واتخاذ القرار.
*نموذج المدينة المستدامة: تجسيد عملي للحوكمة البيئية: أحد أبرز الأمثلة على الحوكمة التعاونية هو “مدينة الشارقة المستدامة”، التي أُطلقت في عام 2020 بميزانية بلغت ملياري درهم (545 مليون دولار) وعلى مساحة 668,900 كيلومتر مربع. وقد تم تطويرها بواسطة هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير «شروق» وإحدى شركات التطوير العقاري. تؤكد تجربة الشارقة أن الحكومة الرشيدة ليست مجرد هياكل إدارية، بل منظومة متكاملة من التشريع والتنفيذ والمشاركة المجتمعية، تتبنى البيانات الدقيقة والتخطيط المستدام والتعاون بين المؤسسات. ومع استمرار النمو الحضري، تبقى المجالس البلدية والمجلس الاستشاري والمجلس التنفيذي أضلاع مثلث حيوي يدعم التنمية، ويحافظ على التراث، ويواجه التحديات البيئية والاجتماعية، وينفتح على التقنيات الذكية والممارسات العالمية. بهذه الرؤية، ترسخ الشارقة مفهوم الحوكمة كتوقع طبيعي وليس استثناءً، وتقدم للعالم درساً في كيفية صنع المستقبل عبر توازن واعٍ بين الأصالة والمعاصرة.
*أستاذ التنمية المستدامة -الجامعة الأمريكية في الشارقة. *رئيس المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة