ظهر الأحد 11 يونيو 2023، القاعة الكبرى بالكاتدرائية العريقة، وجوهٌ كثيرة هناك، بل هي وجه واحد ذو ملامح متعددة. إلتقيت على باب القاعة الصديقة العزيزة الأستاذة نولة درويش، إحتضنتها وبكينا معًا وهي تقول: “ما بأحبش شهر يونيو. خسرت فيه أحب الناس”، ثم ذكرت أسماء كبار غادرونا في هذا الشهر الحزين كان إسم والدها المناضل الكبير المرحوم يوسف درويش واحدًا منهم. رائحة البخور الناعمة تعبق المكان فنستنشقها كما لو كانت روح الرجل العظيم تتسرب معها لتستقر بداوخِلِنا فتحل في وجداننا بلا مغادرة كما غادرنا الجسد، ترانيم الكهنة التى لم أفهم أغلبها أصابتنى بحالةٍ أعرفها من البكاء المكتوم حين بدأت المراسم مع دخول التابوت الأبيض الناصع. لا أمارس أبدًا مُبالغات الكتابة ولا أحبها، لكنى للحق سمعت صوت مؤذن المسجد القريب في تلك اللحظة بالضبط وكأن السماء قد أبَت إلا أن تصحب صلوات مصر كلها روح الرجل العظيم في موكب ذهابه السرمدى ليزداد بكائي الصموت. كان المرحوم جمال الغيطاني يقول أن أصعب الدمع هو ما تحجر في المآقي.
منذ شهرين وبضعة أيامٍ كنت قد فقدت أبًا مُعَلِمًا هو البروفيسور حلمي شعراوي (مواليمو شعراوي) الذى غادرنا حامِلًا جزءًا من الروح معه. في سرادق عزائه الضخم وقد كان ذلك قبل سحور أول أيام رمضان بساعات، رأيت الرجل العظيم مُتَجَهِما وشاحِبًا يضع على وجهه الكمامة. قَبلتُ رأسه ومَضى كلُ منا إلى حال سبيله، ثم رأيته مرة أخرى بحفل للإفطار، كان باسمًا لم تغادر الكمامة وجهه الجميل وإن ظل على شحوبه، جلست إليه قليلًا شاكيًا من آلام خشونة المفاصل، فطالعت الإبتسامة البارعة في عينيه اللتين لم تُخفهما الكمامة قائلًا: “خشونة إيه يا عم إنت لسه شباب، أُمال أنا اقول إيه”، فرددت: “عندي ستين سنة يا مولانا وحضرتك شباب أكثر مني”، ضحكنا ثم ترك الحفل مُبكِرًا. في الثالث من مايو كانت الجلسة الإفتتاحية للحوار الوطني، قبل البدء دعتنى إعلاميةٌ شابة لإجراء حوارٍ تلفزيوني خارج القاعة فَلَبيت. كنت أجلس في مقعدٍ مُتقدم وكان عَلىَّ أن أغادر مقعدى للخارج مارًا بطول القاعة، لأسمعه يناديني وقد كان -وهو من هو- جالسًا في تواضع بأحد المقاعد الخلفية. “أخلص وآجى لحضرتك فورًا” هكذا قلت له لكنى -ويالندمي الشديد- لم أفعل. كانت تلك هي آخر مرة أراه فيها. كنت في الأيام الأخيرة أتابع يوميًا حالته الصحية مع الصديق الغالي الدكتور نبيل مرقص الذي كانت معرفتي به من خلال الرجل العظيم، كانت الحالة متدهورة تنذر بالنبأ الذي كنت أرفضه وكأنه -أستغفر الله- عَصىٌ على الموت. لا أكتب بالعامية المصرية إلا فيما ندر، لكنني ما ان سمعت بالخبر إلا وكتبت على صفحتى بالفيسبوك: “هل يمكن أن تتخيل مصر من غِير جورج إسحق؟ أنا مش مُتخيل”. ذهب الرجل العظيم وتركنا نرفل في أحزانٍ تتجدد.
في سرادق العزاء يوم الثلاثاء الماضي، طلب منى الصديق العزيز الدكتور نبيل مرقص أن أقول كلمة رثاءٍ فأُسقِط في يدي. إعتدت في أي مناسبة أن أقوم بتجهيز ما سأقول لكنني قررت -أو هكذا شاء القدر- أن أطلق لنفسي العنان بلا ترتيب مسبق، فعَاينتُ طيف مواليمو شعراوي أمامي بقاعة العزاء. نعم، حلمي شعراوي وجورج إسحق، طيفا رجلين أبدعا معًا وغادرا معًا بفارق أيامٍ معدودات. قُلت ما قُلت فيهما حسبما تيسر بلا إعداد. نعم، حلمي شعراوي وجورج إسحق هما روح مصر بكل ما تحتويه كلماتِ صدقِ التعبيرِ من معانٍ فضلًا عن أنهما بلا مبالغة كانا بمثابة أبوين لي، فكان الفقد مزدوجًا.
لم أجد بعدما أغلق سرادق العزاء أبوابه سوى إقتراحٍ أتمنى أن يجد لتحقيقه سبيلًا وهو أن يتبنى المجلس القومي لحقوق الإنسان إطلاق جائزة رمزية سنويًا بإسم الرجل العظيم عَلَها تكون رَدًا لجزء من أفضاله وكيف لا وهو جورج إسحق “أبو الفضل”، هكذا هو إسمه الثلاثي.
رَحم الله “عمي جورج” وأعانني وأبناءه الكثيرين الذين يدينون له بالحب بإتساع الوطن على تحمل ألم الفراق.