مصطفى زايد يكتب: المرأة في عين التصوف تكريم روحي وسر أنثوي مقدس

مصطفى زايد يكتب: المرأة في عين التصوف تكريم روحي وسر أنثوي مقدس

في كل عام، ومع إطلالة يوم المرأة العالمي، يتجدد الحديث عن مكانة المرأة وحقوقها، وتتناول النقاشات أدوارها في المجتمعات المختلفة. لكن حين ننظر إلى المرأة من خلال عيون التصوف، نجد أنفسنا أمام رؤية عميقة تتجاوز الجدل السطحي حول الحقوق والواجبات، لتغوص في أبعاد روحانية تجعل من المرأة كائناً نورانياً، يحمل سر الوجود ويتجلى فيه البعد الإلهي بأبهى صوره.

التصوف، بصفته مساراً روحياً يهدف إلى تحقيق القرب من الله عبر نقاء القلب وتجريد الروح من شواغل الدنيا، لم يكن أبداً تياراً يُقصي المرأة أو ينتقص من مكانتها، بل على العكس تماماً، جعل منها رمزاً للحكمة، ومصدراً للمعرفة الباطنية، وشريكاً في السير نحو الله. فالمرأة في التصوف ليست مجرد تابع للرجل أو ظلّ له، بل هي كيان مستقل، ذات تسري فيها الأنوار الإلهية، وصاحبة رسالة روحية قد تعادل أو حتى تفوق رسالة الرجل في بعض المقامات.

المتصوفة لم ينظروا إلى المرأة كمجرد مخلوق بشري، بل رأوا فيها تجلياً لجوانب متعددة من الحقيقة الإلهية. فقد كانت رمزية الأنوثة في التصوف تحمل أبعاداً شديدة العمق، فكما أن الأرض تستقبل المطر لتُنبت الحياة، فالمرأة تمثل فيض العطاء الإلهي الذي يتجسد في صورة الحنان والمحبة والجمال.

الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، وهو أحد أعمدة التصوف الإسلامي، عبّر عن هذه الرؤية بوضوح في كتاباته، حيث اعتبر أن الأنوثة تمثل تجلياً للجانب اللطيف من الذات الإلهية، فالرجل والمرأة كلاهما مظاهر للحقيقة الإلهية، لكن المرأة تمتاز بقدرتها على احتضان الوجود والارتقاء به إلى مراتب الحب الإلهي.

في كتابه “الفتوحات المكية”، أشار ابن عربي إلى أن العلاقة بين المرأة والرجل ليست علاقة تسلّط أو تبعية، بل علاقة تكاملية، وأن للمرأة قابلية روحية تؤهلها للوصول إلى أعلى المقامات الصوفية. بل إنه اعتبر أن المرأة قادرة على تحقيق “الإنسان الكامل”، وهو المقام الروحي الأعلى الذي يجمع بين الأسماء الإلهية المتقابلة، مما يعني أن الأنوثة ليست نقصاً، بل سرٌّ إلهي يعكس بُعداً من الكمال الرباني.

التصوف قائم على العشق، والمرأة كانت دائماً رمزاً للعشق الإلهي في الأدبيات الصوفية. ففي قصائد المتصوفة الكبار، نجد المرأة ليست مجرد حبيبة بشرية، بل استعارة للحب الإلهي، والتجليات الجمالية للحق المطلق.

رابعة العدوية، المرأة الصوفية الأشهر في التاريخ الإسلامي، كانت مثالاً على هذا العشق الإلهي الخالص. فقد تبتلت في حب الله حتى صار وجودها كله مشتعلاً بالوجد الإلهي، وكانت قصائدها تعبيراً عن شوق لا ينقطع للمطلق. لم تكن رابعة مجرد زاهدة، بل كانت مفكرة صوفية، وضعت أسس العشق الصوفي، وحررت العلاقة مع الله من الخوف والعقاب، إلى علاقة تقوم على الحب الخالص، حيث قالت في إحدى مناجاتها الشهيرة: “إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكنني عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة.”

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *