الأكاديمي المغربي شحلان يحدد عناصر أساسية لنجاح إصلاح التعليم

الأكاديمي المغربي شحلان يحدد عناصر أساسية لنجاح إصلاح التعليم

حدد الأكاديمي أحمد شحلان عناصر أساسية لنجاح إصلاح التعليم لخصها في التربة وتشمل الأسرة والمدرسة، وكذا البذرة (التلميذ) وتكوين الفالح (المدرس) داعيا إلى العودة إلى مدارس المعلمين والانتقاء الصارم، أما العنصر الرابع فهو الماء (المادة التعليمية) واللغة التي تتم بها عملية التعلم.

وناقش شحلان ضمن مقال توصلت به هسبريس معنون بـ “التعليم حقل للمعارف ولا يصلح إلا بما تصلح به الحقول” بالزراعة، أهمية التدريس باللغة العربية، موضحا أن العلوم يمكن تدريسها بأي لغة، منتقدا فرض لغات أجنبية على المواد العلمية باعتبار أن التعلم بلغة أجنبية يتطلب جهدا إضافيا للتغلب على حواجز اللغة وفهم المصطلحات العلمية.

كما استحضر الأكاديمي دراسات حديثة تشير إلى أن تعلم العلوم باللغة العربية يمكن أن يسهم في سرعة الفهم والتعلم، خاصة في مجالات مثل الطب والهندسة، رغم التحديات المتمثلة في ضعف التعليم في بعض المراحل وتراجع التعريب، آملا استعادة مكانتها من خلال تطوير المناهج والموارد التعليمية.

نص المقال

دُعيت لمجمع من الأساتيذ المهتمين بمجال التعليم في بلادنا. وكان مدار الحديث حول ما عليه حال تعليمنا اليوم، ولماذا فشلت كل الجهود من أجل تقويمه؟ وكيف يمكن إصلاحه؟ كان علي أن أُدْلِيَ بدلوي في الحديث، غير أني استعظمت الأمر، فهؤلاء الفضلاء من الذين قضوا زمنا طويلا في التعليم، ومن مهامهم في يومنا هذا، النظرُ في السبل التي يمكن من مَسْلكها أن يُقام من عثرته… شعر بي بعض منهم، ولمح أني كنت معلما وبدأت مُعلما في القسم التحضيري (كان هذا القسم إذ ذاك أول قسم يأتيه الطفل من بيته)، وأني تخرجت من المدرسة العليا للأساتذة، وأني درَّست في الثانوي زمنا وحصلت على شهادة الكفاءة، قبل أن أدرِّس في الجامعة. ورأى أن تجربتي هاته تسمح لي بالخوض في ما هم خائضون فيه. رأوا في خيرا جزاهم الله خيرا فقلت:

لا يقوم للأمم الطموحِ شأنٌ إلا بالتعليم الجيد السوي. ولا يمكن بلوغ وتحقيق هذا التعليم السوي إلا بأسباب وشروط قويمة، إذا أحْسَنا التصرف بها أنشأنا مواطنا متعلما صالحا. ولنا في خلق الله المثلُ الأعلى في الأسباب والشروط. فقد خلق الله الإنسان وكلفه بخلافته على الأرض: مَهْدِ العيش الذي يمْتَهِدُه، ووهبه علما فطريا وتدبيرا غريزيا، فاستخرج من الأرض ثمراتها التي هي مصدر استمرار عيشه وما به ضمن قوته المادي: “ثمراتٍ” طيبة نافعة سليمة، كل منها في حينه وزمانه، وكل منها حسب ما يقوم به من حفظ ورَأْب صَدْع. مَـكَّن الله الإنسانَ من هذه الشروط، ومكَّنه من قدرات عقلية بها يتصرف فيها، هي: التربة، والبذرة، والفالح، والماء، والعناية للحصول على الثمرة. وبهذه امتد عيش الإنسان وضمن استمراره في الوجود.

على منهج هذا الهَدْي الإلهي، علينا أن نسير ونتَّبِع الخطى من أجل تعليم سليم قويم. فـالتربة هي الأسرة، والبذرة هي التلميذ، والفالح هو المربي، والماء هو المعارف التي نريد أن ننشئ عليها التلميذ السوي، والعناية هي إيجاد المحيط والمناخ والمسؤول ذا الخلق الرفيع، فإذا تجمعت هذه، بُلِغَ المرامُ، وأتت الجهودُ أكلَها الذي هو الثمرة السليمة النافعة: التلميذ المواطن السوي السليم. وهذه صورة القياس:

– الــــتربة:

تتمثل التربية في 1- الأسرة و2- المدرسة.

1- التربة الأولى الأسرة المغربية أسرٌ ثلاث: محتاجة، متوسطة، غنية. وكل واحدة من هذه الأسر تنشئ طفلا بمواصفات هي الي تصنفه في مساره التعليمي، ولا حاجة بنا لوصف حال كل طفل في تربته، فهي معلومة معروفة. ولا يمكننا أبدا أن نمكن البذرة التي هي التلميذ، في تربة غير متوازية ومتساوية في موقعها ومكوناتها وظروف مناخها، ليكُون الثمرةَ الناضجة السليمة. لذلك فأول الواجبات أن نزيل الفروق “الاجتماعية والمعيشية لموازاة العملية التربوية”. من هذه الفروق:

– الفرق المعيشي، ويتمثل في عدم التساوي في التغذية، وفي اللباس، وفي وسائل النظافة وفي السكن المقبول. ولا يمكن لتلميذ يوصف بنقص من واحد من هذه أو كلها، أن يساير تلميذا آخر رَغْدَ العيش أو متوسطه على الأقل. لذلك لا بد من إيجاد طرق ووسائل لإزالة هذا الفرق، بمطاعم مدرسية وبمقدرات تعمل كل مؤسسة على السعي من أجل بلوغها، لتوفير الغذاء والملبس المناسب وبتوفير السكن اللائق (أسرويا أو مدرسيا) للمحتاجين. بدون هذا لا يمكننا أبدا أن نكوِّن طفلا سويا مساويا للآخر في العملية التعليمية.

– الفرق الثقافي: الكثير من الأسر، سواء في المدينة أو البوادي، أميةٌ أو نصف أمية، وهذه لا تستطيع أن تسهم في حاجيات العملية التعليمة، فالذي لا يملك لا يستطيع أن يعطي وإن أراد. والتلميذ في هذه الأسرة في حاجة إلى إيجاد فضاء مدرسي تتعاون فيه إدارة المدرسة وجمعية الآباء والمدرسين الأوفياء، لتعويض ثقافة الأسرة، وفرض سلطة الخضوع للتَّتَبُّع الذاتي الذي يجب على التلميذ أن يخصه لعمليته التعليمية. هذا بالنسبة للذين لا يمكنهم زادهم المعرفي من مساعدة ومراقبة أبنائهم، وبالنسبة للطبقة المتوسطة، فقد لا تجد الأسرة الوقت، لظروف العمل والعيش، لتتبع أبنائها تعليما ومراقبة، وفي هذه الحالة، على المدرسة أن تقوم بهذه المهمة كما هو أعلاه.

2- التربة الثانية المدرسة

إنه لضرب من الأحلام أن ننشئ ناشئة تتساوى في المعرفة والفكر والأخلاق والتصرف والانتماء للوطن ومعرفة تاريخه وجغرافيته وحبه، دون العناية بالنوع الثاني من التربة الذي هو المدرسة الموحَّدَة شكلا ومضمونا. وليست هذه مدرستنا اليوم. فمدارسنا اليوم متعددة مختلفة: مدرسة عمومية، ومدرسة خاصة، ومدرسة أجنبية. وهذه تربة مختلفة المكونات، غير متساوية في عناصرها ومركباتها وأوضاعها ومناخها. تربة كهذه لا تثمر إلا ثمرات متباينة في الهيئة والطعم. فإذا كانت الثمرة تلميذا، فنتيجة هذا التباين تنتج أضرارا نفسية خفية، قد يكون لها بعض ضرر على المجتمع في العاجل أو الآجل. بالإضافة إلى هذا، فإن هذه المدارس كلها تشوبها ثغراتٌ معرفية هائلة. وتختلف هذه الثغرات من مدرسة إلى أخرى، ولا يمكن سد هذه إلا ببرنامج واحد مشترك في عدد حصصه، وجودة تأليفه، واحتوائه مواد هي بين الوطني بتفاصيله والإنساني بشموله. وفي هذا البرنامج تكون الامتحانات الاستشهادية، وبه يكون التدرج في المؤسسات والدخول إلى الجامعات والمعاهد. وعلى التلاميذ المغاربة الذين يتابعون في مؤسسات أجنبية، -ولهذه أن تختص بما تريد- أن يأخذوا المواد الأساسية في المقرر المغربي وفيه يمتحنون وباللغة العربية، وإلا فما هي المكونات المعرفية التي بها ننشئ تلميذا مغربيا لا يشعر بنقص أو يتباهى بتَمَيُّز. وهذا التلميذ هو بذرتنا التي من أجلها تقوم عملية الحرث كله.

– البـــــذرة:

البذرة هي التلميذ، فإذا وفرنا له في أسرته ومجتمعه ما سبق ذكره، علينا أن ننظر في قدراته العقلية وفي خصائصه النفسية. فطبيعة الله في خلقه أن جعل قدرات الإنسان ورغباته تختلف. وليس المقصود هنا بالاختلاف النقص، وإنما المقصود، به وجهة الرغبات الذاتية، فقد نبني أو نفرض نجاح تلميذ على الرياضيات وهو كاره لها، ولعلنا لذلك نبعده عن الدرس نهائيا، في حين أن له قدرات عقلية أميل إلى أعمال يدوية يبدع فيها. لذلك على المشرفين على العملية التعليمية والمربين، أن يضعوا مناهج خاصة بكل صنف من أصناف المتعلمين. ولعل المشرفين على العملية التعليمية أخذوا هذا في الاعتبار.

من بذور العملية التعليمية أطفال أسرهم فقيرة إلى حد الامتناع عن التفكير في توجيههم إلى المدرسة أو إيقافهم عن متابعة التعلم، لأن هؤلاء الأطفال هم مَوْئِلُ رزقهم ومعاشهم. فعلى المشرفين على العملية التعليمية أن يضعوا هؤلاء الأطفال في الاعتبار، وأن يضعوا برامج تسمح لهم بالعمل في نصف يوم والتعلم في النصف الآخر أو في المساء. وقد نتنكر لأعرافنا إذا اخترنا قوانين تمنع من لم يبلغ سنا معينا العملَ، فهذا يتعارض مع إمكانيات وقدرات العقل البشري، فكثير من الصنائع تنقش في ذهن الطفل ويبلغ مداه فيها وهو في سن الطفولة، وقد لا يبلغ هذا المستوى إذا تمادى به العُمْر. كما أن كثيرا من صنائعنا التقليدية الفائقة الإبداع، كان الأطفالُ هم حَفَظَتَها وسَدَنتَها وهم المبدعين فيها. والكثير من هذه الصنائع تموت اليوم في بلدنا، في وقت أخذ الغرب يُعنى بمثل هؤلاء الأطفال، ويفسح لهم المجال لأخذ الصنعة من “لَمْعَلَّم”، مع ضمان تعليمه التعليم الجيد، وهو ما نريد من مسؤولي التعليم في بلادنا أن يقوموا به،

– الفالح (الفلاح):

العملية التعليمية مهنة لها شروط يجب أن تتوفر فيها جميعِها وهي بالنسبة للفالح (للمُدَرِّس): أ- التمكُّن من العلم المختص فيه. ب- التمكن من الوسائل التي بها يحرث ويفلح: البيداغوجية. ج- الحب الفطري الذي هو حب الفلاح لأرضه. على كل هذه الشروط ينشأ فالح الأرض في أرضه، يتعلمها في “مدرسة” بيئته ومحيطه، وبدونها لا يمكنه أن ينتج الثمرة المرضية. ويزداد عطاءُ الأرض وجودةُ ما تعطي إذا ما تعلم في معاهد الزراعة وما شابهها. وهذا ما يجب أن نعود إليه في مهنة التعليم، إي العَوْد إلى تكوين المدرس في مدارس المعلمين والمدارس العليا للأساتذة، والتشديدِ في الانتقاء وفي اختيار من يلج هذه. فقياسا على ما بدأنا به الحديث، ففالح الأرض لا يكون إلا قوياً صبورا محبا لتربته. وليس من المعقول أن يُعتمد على صيانة التربة ممن لا يربطه بها رابط معرفي، وكَيْفٌ معرفي، ورابط حب الأصول. فبالأولى الطفل الذي قد نسلمه لمدرس لا يملك من شروط الفلح شيئا. والطفل في هذه الحال، طينة لم تُسْبَك بَعْدُ، وستبقى على ما هي عليه أو تشوه، إذا تسلمها مدرس يفتقد كل تلك الشروط أو واحداً منها. ومن هذا التصور، نقول إنه لا يمكننا أبدا أن نصلح من شأن حقل المدرسة والفلاحُ غير متمكن من شروط الفَلْح تلك، خصوصا الأدوات الصناعية التي بها يستعين (البيداغوجية) ووسائل التخصيب التي هي المادة المعرفية، ولغة التلقين التي بها يوصل معارفه. وهذه هي ماء حقله.

– الماء:

أ- الماء في هذه المقايسة هو المادة التعليمية، وليس من شأني أن أتحدث عن مضمونها، فهذه من خواص المربين. ورغبتي عندهم هي أن يحثوا التلاميذ على القراءة، وأن يتخذوا لذلك سبلا، مثل تكوين مكتبة القسم، وإلزام التلاميذ بالقيام بواجباتهم داخل هذه، وإجراء نوع من الامتحانات فيها، مع حثهم على استعمال مصادر المكتبة والنظر فيها لتحرير أجوبتهم على الأسئلة التي وضعت لهم. إذ لم يعد التكوين يعتمد الحفظ، وإنما أصبح يعتمد القدرة على التصرف في الوثيقة واستقراء ما فيها من معطيات. وهذا هو المنهج الذي يمكِّن من الإبداع والخلق فيما يقوم به التلميذ وبلغة وطنه.

ب- والماء هو اللغة العربية التي بها تتم عملية التعلُّم

إذا ارتأينا أن وضع المقرر هو من خاصة رجال التربية، فإن لنا رأيا في لغة تدريس المواد، ومنها العلوم التي يراد لها أن تدرس باللغة الفرنسية أو غيرها، وأعني بها علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء…،

سبق لنا أن تحدثنا عن هذا في مقالات لنا سابقة. وفيها قلنا إن هذه العلوم هي رموز ومنطق، ولا يستعصي تدريسها بأية لغة كانت. والذين يعترضون على تعليمها بلغة عربية، يفعلون ذلك لوَهْمٍ لحقهم عن غير تَدَبُّر. وجاء وهمهم هذا من اعتبارهم العربية عاجزة عن تلقين العلوم، لأنهم يخلطون بين شيئين اثنين في اللغة: 1- لغة التواصل اليومي. 2- لغة العلم المُسْتعمِلة للمصطلح العلمي. وكل لغات العالم، كبر عدد مستعمليها أو صغر، تتضمن في مدوناتها النوعين معا:

1- لغة التواصل وهي اللغة العادية المركبة من حروف وأفعال وأسماء (تستعمل في صيغ فعلية واسمية) وهذه أساس التواصل العادي، ولكل أمة لغتها في صغيرات القرى وكبريات المدن، يتكلم بها كل الناس في أحوال معاشهم حتى من لم يدخل مدرسة.

2- لغة العلم الــمُــــرَفَّـدَة بالمصطلح في المختبر أو الورشة أو الجامعة، وهي لغة خاصة، وكل خاصة فيها تتضمن خاصات، تبعا لتفرع العلوم ودقة مستعملاتها. وكل اللغات قادرة بقسمها الأول على التبليغ، وهذا هو الأساس. أما لغةُ العلم والمصطلح فهي نوع من الدخيل على كل لغة، ما دام المختـَرَع المعني هو مِنْ صُنْع أمةٍ تتكلم بغير لغة مستورِد العلم. فعالم الاجتماع أو الإناسي (الأنثروبولوجي)، في جامعة هرﭬـارد الأمريكية، عندما يريد أن يبحث في موضوع “البَـلـْغَ” المغربية، سيجد في لغته الإنجليزية عجزا وعِيّا وقصورا وضعفا، ولا بد له في حينها من أن يستعمل لغة “السوق” وهي هنا “مصطلح” دخيل، لأن صناعة “البَلْغَ” لا توجد في “احْوانـْتْ” واشنطن. فـ”لشَّرْبِيلْ” و”لْمْسِيَّطْ”، وزِيوَانيِ وَبْسَاطْ” و”لْقُرْمِيلْ” و”لَبْطَانَةْ” و”لِيشْفَا” إلى آخره، كلها مصطلحات مفقودة في اللغة الإنجليزية، وستصبح حاجة العالم إليها ماسة لصناعته المعرفية. وهذا الاحتياج هو احتياج كل صاحب لغة لم يصنع أهلُها العلمَ المراد معرفته، فهل كان على العالم الأمريكي أن يترك لغته الإنجليزية ويتهمها بالقصور ويتعلم لغة السوق في منعرجات فاس أو دروب مراكش ليكون عالما؟ إنه استعمل لغته الإنجليزية للتواصل، واستعمل مصطلح “السوق” للعلم. وهذا هو الطبيعي عند الأمم التي تعتز بلغتها وأصولها، فهي تستعمل لغة التواصل واسطة، وهي لغتها القومية، أو الوطنية، وتستضيف المصطلح العلمي، إما من صناعة المعاجم ويصبح هنا جزءاً من لغتها، أو كما هو في لفظه وحرفه للتعلم والتعليم. واللغات كلها متساوية في حاجياتها لما هو من صنع غيرها. والعربية قادرة حاضراً، كما كانت في الماضي، عندما كانت هي إنجليزية الدنيا، ومنها تعلمت أوروبا عندما أخذت مصطلحات علمها “للعلم المراد معرفته”، واستعملت اللاتينية أو غيرها من لغات قومية، للاستفادة من معارفها عربيةً إسلاميةً، وكانت هذه العلوم أُسَّ وأركان بنيانها الحضاري الذي ما زات دماؤه تجري في عروق ما وصلته من علوم ومعارف.

ومما يبين أن المصطلح لا يضع مشكلا، هو كونه في كثير من الأحيان، غير مرتبط بالعلم الذي استخدم فيه. فالذي وضع مصطلح ” Mouse// Souris” لم يضع في حقيقة الأمر أيَّ مشكل لمستعمل اللغة العربية على سبيل المثال، لأن مصطلح “Mouse// Souris” لا يرتبط أصلا بصناعة الحواسب، إنه مسمى اخترعه من صورة قفزت إلى ذهنه حين وضعِه المصطلح، نتيجة للمادة التي وضع يده عليها، وقد اتخذت شكلها من انحناء كف يده أكثر من صورة الفأرة التي لم يكن لها وجود في بيته على الإطلاق. والدليل الأوكد على ما نقول، إن ذلك التصور الذي وُضع من أجله المصطلح، لم يعد قائما في الحواسيب الحديثة، فلمس سطح الحاسوب أو حتى الإملاء، يقوم بنفس مهمة “Mouse// Souris”، ومع ذلك لم تتغير التسمية.

ولست في حاجة إلى القول بأن التدريس بلغة الأمة هو أمر طبيعي، وهو من مقومات كرامتها وأنَفَتِها. وهناك من أحيى لغة لا تضارع العربية لا في تاريخها ولا في غناها، مدونة وإنتاجا وانتشارا، ومع ذلك أصبح بما استنقذه من رِمَمِها يخترع العجائب نفعا وضرا.

إضافة إلى “ذُلِّ” لباسٍ غير لباسنا، فإن اختيارنا للغة أخرى سببٌ من أسباب هَدْرِ زمان كثيرٍ في العملية التعلمية. وبيان ذلك، أن لغة الأمة هي نتاج مكوناتها الفسيولوجية وخصائصها الدماغية وهيئة جهازها الصوتي. واللغة، تتموضع في هذه أوضاعا خاصة موروثة عن قرون من السنين. والدماغ وهيئة الجهاز الصوتي هما المتصرفان في صناعة اللغة والتعامل مع اللغات الأجنبية عنهما. ومعلوم أن اللغات عوائل، ولكل عائلة خصائصها المُتماهِيَة مع التكوين الفسيولوجي وقدرات الدماغ والجهاز الصوتي الذي فيه تصنع مخارج الحروف وتناسقها. فخصائص أسرة اللغات العُربانية” (السامية) التي منها اللغة العربية، تختلف عن خصائص أسرة اللغات الهندوأوروبية (ومنها الفرنسية) أو الجرمانية…. وتعلم تلميذنا بغير لغة الأمة، يحتاج إلى زمن زائد عنده. ذلك أن لكل عائلة لغوية بنياتها الخاصة بها في أنحائها وتراتبية ألفاظها وآثار المحيط والمناخ وسَعَة المدونة المعجمية… واختلافُ البنية هاته، هو الذي يتطلب من دماغ التلميذ المتلقي بغير لغته، زمنا زائدا هو ربح للمتلقي بلغته، لكي يستوعب ويفهم المراد من اللفظ أو التعبير. ومن هنا يصبح التلميذ الذي جعلوه يستعير لغة غير لغة الأمة، غيرَ متساو مع المتعلم بلغته الأصل، في الاستيعاب المريح، والقدرة على اكتساب المعارف في نفس زمن المتلقي بلغته الأم. ولعله يكون ضعيفا في الإنتاج المعرفي في مستقبل أيامه. وقد سبق للمرحوم المهدي المنجرة أن لاحظ في إحدى محاضراته، أن الذين ينتجون في المغرب هم الذين يكتبون باللغة العربية. إشارةٌ جعلتنا نتتبع نتاج كليات الآداب في المغرب، فتبين لنا أن الشُّعب الأكثر إنتاجا، هي شعب الأدب العربي والتاريخ والجغرافية والفلسفة وعلم الاجتماع والدراسات الإسلامية، وهي تدرس باللغة العربية. في حين أن شعب الفرنسية والإنجليزية (وهذه هي الأكثر في كلياتنا) قليلة الإنتاج، إذا لم تكن منعدمته في بعض الكليات -(وتشهد على ذلك جائزة الكتاب التي تكاد تكون خلوا من نتاج اللغات الأجنبية)- والذين أنتجوا من أساتذة هذه الشعب، فعلوا ذلك، لأنهم استعملوا لغتهم في بحوثهم في التراث العربي. لا يعني هذا أن هؤلاء الأساتذة ضعاف، فهم في موادهم التدريسية من المبرزين، وفي معارفهم الخاصة بهم من المعروفين. غير أن الذي يفسر قلة إنتاجهم، هو حالهم النفسية التي جعلتهم يشعرون عن غير وعي منهم، بأن اللغة التي اختصوا بها هي ليست ملكاً لهم، وأنهم لا يستطيعون أن ينتجوا فيها أفضل من أصحابها (لا شك أن هناك استثناءات لكنها لا تغير الواقع). ولعل هذا الذي في كليات العلوم الإنسانية هو نفسه في الكليات الأخرى. ومع كل هذا، لا ننكر وجود أساتذة جامعيين مغاربة، يعتبرون في تخصصاتهم وفي مؤلفاتهم، من كبار أهل الاختصاص على النطاق العالمي.

ج- ومن الماء اللغات الأجنبية

كما أن العملية التعليمية، لا تكون جيدة إلا باستعمال اللغة العربية في تدريس كل المواد للأسباب التي أشرنا إليها، كذلك لن تكون جيدة، إذا لم نجعل للغة الأجنبية – (كيف ما كانت) – مكانتها اللائقة والضرورية، بدءاً من التعليم الابتدائي، حيث يتعلم التلميذ الفرنسية (أو غيرها)، وتُرفق هذه بلغة أخرى أو أكثر (قد تكون الإنجليزية) في الإعدادي والثانوي. وهنا يلزم أن تُـقَوىَّ معرفة التلميذ باللغات، بحصص للترجمة تعتمد نصوص العلوم، بحيث تكون هذه مدخلا للتعامل مع هذه الاختصاصات، وتنمي لديه رصيد المصطلحات التي يعتمدها في عمليته التعليمية عند الحاجة. منهجٌ كهذا، هو القمين بجعلنا ندرِّس العلوم في الجامعة باللغة العربية، ذلك لأنا نكون قد مكَّنا التلميذ/ الطالب، من أداة القدرة على التصرف اللغوي من أقسام الابتدائي، ورَوَّضناه بها في أعمال الترجمة في الإعدادي والثانوي، وعودناه على ملامسة العلوم في لغات مختلفة في الجامعة ومتى شاء. وهو بهذا لن يجد أية صعوبة في أية جامعة اختارها مما يُدرس بلغة اختياره. وبهذا تكون لنا كرامتنا -لا كرامة بدون لغة- ونعفي نفوسنا من ذل “التسول”. فمهاجر اللغة كمهاجر الخبز، هو عند من لبس لغاتهم يحمل دوما دونِيَتَه. ولعل من لا يتكلمون مع أبنائهم منذ الصغر إلا بلغة غير لغة الأمة وهي وحدها، يشعرون بـ”وَسْمَة الدونية” التي لا تظهر لهم، لأنهم لا شعوريا، يعتبرون أصحاب اللغة التي اختاروها لأبنائهم أسيادا لهم وفوقهم في رتبة المجتمع.

هـ العناية بالحقل، وهو هنا التعليم، تتمثل في اختيار كفاءات، علماً وأخلاقا ووطنية والتزاما سياسيا، هي التي تسهر على النظر في الحاجيات المادية التي توفر كل ما تتطلبه العملية التربوية في: حال المدرسة وحال التلميذ وحال المدرس وجودة المقررات والتخطيط لما يمكنه أن يستوعب “ثمرات” هذا التعليم، ليكونوا مواطنين صالحين تكفل لهم الدولة العيش الكريم.

قد يتبادر للبعض السؤال عن قدرات اللغة العربية وغناها وعن مدونة مصطلحها العلمي، لتقوم بمهمتها التي تُعِد لنا هذه الثمرة الجيدة. الجواب عن السؤال يتطلب تحريرا طويلا لم تعد سَعَة النشر قادرة على تحمله. لذلك أكتفي بالتنويه بما يأتي:

– صدور أكبر وأشمل معجم تاريخي للغة العربية -(بل أكبر معجم على الإطلاق في العالم)- في الشارقة في نهاية شهر شتنبر 2024، في 127 جزءا، يتضمن 11300 جذر، و73000 مدخل، و351000 شاهد تاريخي. مشتقات هذه الجذور والمداخل والشواهد والنظائر في اللغات “العُربانية” (السامية) 21 مليون كلمة، في 91000 صفحة. تضمن هذا الكم الذي يفوق اللغة الإنجليزية كل التراث العلمي العربي الإسلامي مذ كانت العربية، وتضمن أيضا نظائر العربية، الأخوات التي هي: الأكادية والأوغاريتية والآرامية والعبرية والسريانية والحبشية، بشواهد في نصوص. وأهَّله هذا الشمول للحصول على “شهادة موسوعة “غينس” العالمية، وذلك في الشارقة 18 دجنبر 2024، باعتباره “أكبر وأضخم مشروع لغوي تاريخي على مستوى العالم”.

– صدور معجمات عن مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهو في الرباط، وعددها 55 معجماً في كل العلوم بلغات ثلاث: العربية والفرنسية والإنجليزية، وبعضها مع الأمانية. وهذان المصدران -إضافة إلى الشروط السابقة- قادران وكافيان ليمدا مدرستنا بما تحتاجه من روافد لغوية ومصطلحية، لتكوين تلميذ/ طالب وعلى المستوى العالمي.

وأنهي مقالتي بسؤالين وجهتهما لأعجوبة العصر: “الذكاء الاصطناعي”:

أولهما: هل اللغة العربية قادرة على تعليم العلوم الحديثة؟

الجواب: “بالطبع، اللغة العربية قادرة على تعليم العلوم الحديثة، ولها تاريخ طويل في هذا المجال. إليك بعض النقاط المهمة التي توضح ذلك: الخصائص اللغوية: اللغة العربية تتمتع بخصائص صرفية وتركيبية تجعلها قادرة على استيعاب المفاهيم العلمية الحديثة. فهي لغة غنية بالاشتقاقات والتعابير التي يمكن استخدامها لوصف الأفكار العلمية المعقدة… وكانت العربية لغة العلم الأولى لقرون عديدة، حيث ساهم العلماء العرب في تطوير مجالات مثل الطب، الرياضيات، والفلك. هذا التاريخ يعكس قدرة اللغة على استيعاب المعرفة العلمية… وتشير الدراسات الحديثة إلى أن تعلم العلوم باللغة العربية يمكن أن يسهم في سرعة الفهم والتعلم، خاصة في مجالات مثل الطب والهندسة… رغم ذلك، هناك تحديات مثل ضعف تعليم العلوم باللغة العربية في بعض المراحل التعليمية، وتراجع التعريب. لكن الجهود مستمرة لتعزيز استخدام العربية في التعليم العلمي. …. وهناك أمل كبير في أن تستعيد اللغة العربية مكانتها في تدريس العلوم، من خلال تطوير المناهج والموارد التعليمية”.

ثانيهما: هل يمكن تدريس الفيزياء والرياضيات والكمياء بأي لغة لأنها رموز وحسب؟

الجواب: “في الحقيقة، يمكن تدريس الفيزياء والرياضيات والكيمياء بأي لغة، لأنها تعتمد على الرموز والمنطق… والمنطق هو أساس العلوم، وهو مستقل عن اللغة. لكن شرح المنطق يعتمد على اللغة، ويفهم بطرق مختلفة في كل لغة. لذلك، يمكن تدريس العلوم بأي لغة، لكن اللغة الأم تُسهل الفهم والاستيعاب، لأنها أكثر ألفة للأفراد”.

سألني فضيلة “الذكاء الاصطناعي”: هل تريد معرفة المزيد عن تأثير اللغة على تعلم العلوم؟

أجبته: نعم. قال: “رائع! لنتحدث عن تأثير اللغة على تعلم العلوم بشكل أكثر تفصيلا. تُعتبر اللغة الأم أداة أساسية في تعلم العلوم، لأنها تُساعد على فهم المفاهيم وربطها بالواقع. فمثلا، إذا كنت تتعلم الفيزياء باللغة العربية، فستكون أكثر قدرة على فهم المصطلحات مثل “القوة” و “الحركة”، وربطها بتجاربك اليومية. لكن هذا لا يعني أن تعلم العلوم بلغة أجنبية مستحيل… ولكن، يجب أن تُدرك أن التعلم بلغة أجنبية يتطلب جهدا إضافيا للتغلب على حواجز اللغة وفهم المصطلحات العلمية”.

هذان الجوابان يلخصان كثيرا من كلام أدرجناه في مقالتنا أعلاه.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *